لا يزال هذا البابا العظيم يدهش البشرية جمعاء. ما يزال يفاجئنا بأعماله الإنسانية التي تبدو خارج سياق هذا العالم المتوحش والمتعطش الى سفك الدماء والفتن وانتهاك حرية وحقوق الناس، واعتناق سائر أنواع الظلم والقهر والاستبداد والعسف.

امس عاد فرنسيس الأول، الجالس على عرش بطرس في الاتيكان، الى هذه الحاضرة، قادما من زيارة قصيرة الى اليونان حيث تفقد مجموعات اللاجئين الذين تغلبوا على البحر وأمواجه فوصلوا من تركيا ليقيموا في مخيّمات قرب شاطىء البحر الذي إبتلع الآلاف منهم ولمّا يرتوِ أو يشبعْ بعد.

والحدث ليس فقط عودة البابا بل إصطحابه معه، وعلى الطائرة ذاتها، ثلاث عائلات من اللاجئين... وهذه العائلات كلها مسلمة. وعندما سئل من الوفد الإعلامي المرافق كيف يكون ذلك! جاء جوابه مفعَماً بسمو التعاليم المسيحية: «اللاجئون كلهم أبناء اللّه، المسلمون منهم والمسيحيون على حد سواء».

وكان قداسته قد حمل هم اللاجئين منذ تسلّمه «عرش» بطرس... ونقول «عرش» تجاوزاً، لأنّ فرنسيس الأول يرفض أن يجلس على كرسي مميّز، بل مجرد كرسي عادي، ومن ينظر الى صورة المكتب البابوي في الاتيكان يكتشف أنه مجرّد كرسي عادي الى طاولة عادية! هكذا ببساطة.

وأذكر عندما حصل لنا الشرف والبركة أن نلتقي قداسته في حاضرة الاتيكان في لقاء خاص، ضمن قاعة مقفلة، وكنّا في وفد جامعة آل خوري في لبنان والعالم ان قداسته لم يجلس على الكرسي المخصص له، وبقي واقفاً معنا بعد أن دار علينا مصافحاً إيانا فرداً فرداً مقدّماً لكل منّا مسبحة صلاة... وكم كان رائعاً عندما إختتم اللقاء طالباً منّا أن نتلو «الصلاة الربّانية» و»السلام الملائكي» بلغتنا الأم (أي باللغة العربية) وما أن إنتهينا حتى ودّعنا بقوله: صلّوا لأجلي! هذا البابا القديس يطلب منّا، نحن الخطأة، أن نصلي لأجله.

إن هذه العجالة لا تتسع لتسجيل الخطوات «الثورية» التي إتخذها قداسة البابا فرنسيس الأول منذ هو في سدة البابوية، إلاّ أنه يمكن الجزم بأنها موحى بها، وفق إيماننا واقتناعنا، من الروح القدس... فهذا الشيخ الجليل، ملائكي البسمة الرضيّة، أثبت أنه قادر على أن ينفخ روحاً تغييرياً هادراً في الكنيسة ، منذ أن أسقط مظاهر الفخفخة، مكتفياً بالحد الأدنى من ضرورات ومستلزمات العيش، أخذاً بما لقننا إياه المعلم الإلهي يسوع الناصري الذي حثنا على أن نتلو في صلواتنا دعاءنا الآتي «أبانا الذي في السماوات (...) أعطنا خبزنا كفاف يومنا». فالخبز (والمقصود مستلزمات الحياة)، هو مجرد تلبية حاجة بيولوجية ليس أكثر...

إنّ اصطحاب قداسة البابا فرنسيس الأول ثلاث عائلات مسلمة من النازحين هو أكبر من عملية إنتقال عابرة في الطائرة البابوية من اليونان الى إيطاليا، إنها رسالة حب في زمن الحقد، ورسالة تعاطف في زمن الذبح على الهوية.

فرنسيس الأول... أنت دليل حيّ الى النور والصفاء والنقاء... الى اللّه.